لست أدري ما الذي دفع بالوديع الى التغنّي بمثل هذا الموضوع الغريب . قد يكون السياق الدرامي لقصّة تلك المسرحية المنسيّة وقد يكون سبباً آخر ؛ وقد يندرج هذا في إطار محاولات نقل أجواء الريف اللبناني الى المدينة مثل طلّ الصباح وغابت الشمس والميجانا التي تتغنى بشغل الحصاد وما شابهها ، وقد تكون لذلك أسباب خاصّة بالصّافي وحده لا نعلمها . المهم أنّ هذه المقطوعة ستضاف الى كنوز الريف الأخرى التي نفحنا بـها الوديع على مرّ الأزمان لتكوّن معاً صورة بديعة قلّت مثيلاتها في التراث المغنّى في القرن العشرين .
كان هدفي ، أول ما رحت اتعرّض للنصوص المغنّاة ، تيسيرَ أمر المحكيّة اللبنانية أو الشامية للناطقين بالضاد من عرب ومن عجم ؛ ولم أرمِ من وراء ذلك أن أنال النصّ بالشرح بما هو وراء اللفظة . قد يحدث أحياناً أن يتحتّم الشرح من النصّ المستغلق لفظاً ، بيد أن ليس في ذلك ما يسوّغ شرح الأبيات وما بينها من ظاهر وخفيّ ، خشية فتح باب الأدب ، وليس هذا مبتغى هذا الباب فيما نعلم . لذا فانني أستميحكم عذراً إن لم تجدوا في الترجمة شرحاً لما قد يكون الشاعر قد قصدَ من معانٍ أو صور أو تشابيه أو أغراض ليس هذا مقامها .
لقد استوقفتني هذه المشحرة لعدّة أسباب أهمّها موضوعها وتاريخها وسياقها وكونها أحد أعمدة برنامج "الكانون العتيق" الذي رحت أبحث عنه منذ حين ؛ فرأيت أن أتعرّض لها . وكنت أعتقد أن موضوعاً كهذا ليس مدعاة لتلحين موّال ، إلا أنّ الصافي قد شاء أن يفاجئنا كعادته .. فأفلح . لم أستطع الى الشاعر سبيلا ، وإن كنت أشرت سابقاً الى أنني أرجّح أن يكون أحد الأسعدين السبعلي أو سابا ، وقد أكون مخطئاً ، إذ أنّ لرشيد نخلة ولعبد الجليل وهبي وليونس الابن وحتى لمارون كرم صولات لا تقلّ عن هذه في هذا الباب وغيره ، إنما ألله أعلم !! المهمّ أنني خضت هذه المتاهة وأنا واع ٍ .. أولاً أنها لن تعني أحداً أصلاً ؛ وثانياً لما سأتجشّم من عناء في فكّ طلاسم هذه اللوحة المحكية الريفيّة ، فكان لي ما انتظرت وأكثر . هاكم إذن :
المشحرة
المشحرة : كومة مخروطية الشكل من الحطب الاخضر تحترق دون هواء فيتحوّل الحطب الى فحم ، أي أنها مكان صناعة الفحم والصانع مشحرجي وجمعها مشاحر. ومنها أتى المصطلح مشحّر ومشحّرة كناية عمّن وقع صريع النوائب تنتابه فيتّشح بالسواد .
ما أفجعك يا آكلة عماد الشجر
ما أفجعك : ما أشرهك . الفعل انفجع فهو مفجوع والاسم فجعة وفجعنة .
عماد : كلمة فصيحة وهي الخشبة تُسند عليها الخيمة ، كل ما رَفَع شيئاً ، دعامة رأسيَّة وجمعها عُمُد ، ما يعمد اليه والقصد هنا جذع الشجرة .
حلّك يا بنت النار حلّك تشبعي
حلّك : أما آن لك أن تشبعي يا ابنة النار وهي كنية للمشحرة لأنها تولد من النار .
الصبح انطفا وبقلبك الأسود وعي
وعي : استيقظ . بعد أن أتيت على النبات انطفأ الضوء ولم يستيقظ الا في بطنك .
ورمّد عأرض جهنمك قلب الحجر
رمّد : احترق فصار رماداً ، ورمّد العنب أيضاً ، علـَته طبقة من رماد وهو من الأمراض الفطريّة المشهورة التي تعتري الكرمة وقد تأتي عليها .
يا ميتـّمة الغابات ، لبّستِ التلال
والجبال العالية مناديل سود
عا زرعة الانسان شو قلبك حقود
لمّن خْلقتِ تخزّق كتاب الجمال
تخزّق : تمزّق .
خلقتِ من المنشار بدقيقة غضب
والسنديانة بقلبك جوانح قصب
حوّلتِ السنديانة ذات الخشب الصلب الى قصبة . قصّب الشاة قطّعها إربا إربا والقصّاب معروف ، وقد يكون المقصد أنّ المنشار قد قطّع السنديانة بدقيقة غضب وألقى بها الى النار مقطّعة .
شو انسنّت فراريع ساعة مولدك
شو انسنّت : لكم سُنّت أي شُحذت ، فراريع : جمع فاروعة أو فرّاعة وهي آلة شبيهة بالفأس ذات هراوة قصيرة يقطّع بها الخشب ؛ ومنها اشتق الفعل فرَع الشجرة أي شقّها وفي اللغة فرَع رأسه بالعصا أي ضربه على أمّ رأسه .
يا مقبرة من نار عم تاكل حطب
عم: سبق الاشارة اليها أنها بدل ing في اللغة الانكليزية .
حطّاب قبل الضوّ كرمى لك غِدي
كرمى لك : لأجلك ، غِدي : نهض باكراً قبيل طلوع الفجر والغدوية هي ما بين الفجر وشروق الشمس . أما غَدي بالفتح فتفيد معنى الغداة .
شو قطّع شرايين شو تكّى رقاب
شو قطّع : لكم قطّع ، تكّى : أحنى وأمال أو ذبح أو نحر والجذر تكى سامي قديم يفيد المعنى ذاته ، وهو غير الجذر الذي منه "تكّاية" أي مسند يتكأ عليه فذلك من وكأ .
بيزورك غصن البيرشح بالندي
البيرشح بالندي : الذي يرشح بالندى
بيطلع بعبقة وجّ عا لون الضباب
عبقة : ضيق نفس أو أزما ومنها عبّق أي لم يستطع التنفّس ، وجّ : وجه ، وعبّق وجهه أي احمرّ من ضيق تنفّس أو من خجل ، أما هنا فقد تلوّن الوجه بلون الضباب .
عم يحلم الكانون فيك والسهر
عم : سبق الاشارة اليها ، كانون : موقد من صفيح يُجعل الفحم فيه ويشعل ليصبح جمراً للتدفئة والشيّ . اللفظة آرامية وقاموسية وتفيد كذلك معنى الأشهر الأول والثاني عشر من السنة .
والشّرد جارح والشمالي عالطريق
الشّرد : المطر الذي يحمله الريح فيدخل البيت من كوّة أو من نافذة . وقد استوقفتني هذه الكلمة إذ أنّ للشرد في محكيّة شمال فلسطين المتاخم للحدود اللبنانية الجنوبية معنىً مغايراً تماماً ؛ فالشرد عندنا هو الحرّ الشديد من جرّاء ريح شرقية لافحة . الشمالي : الهواء الشمالي وهو الألطف صيفاً والأبرد شتاء .
نسمته بتشكّ شكـّات الإبـَر
بتشكّ : شكّ أي وخز ، شكّات : طعنات أو وخزات من أداة حادّة أو إبرة ، وما يميّزها أنها طعنات غير نافذة .
والبيت مزرقـّة حجاره عالدّنيق
الدّنيق : البرد الشديد ، مزرقّة : لونها مشوب بالزرقة ، أما القصد منها في هذا السياق فهو الزّرقة التي تعلو البدن من جراء البرد الشديد .
تفضلوا
وعسى أن يكون الأستاذ بشير معكم
أخوكم
الفارابي